في بلد يختنق عند أول شرارة طائفية، تطل من الطريق الجديدة ظاهرة دينية مقلقة، تأخذ من الدين ستاراً ، ومن الإعلام سلاحًا، ومن المذهبية منصة للصعود.
الشيخ حسن مرعب، إمام مسجد الإمام علي بن أبي طالب، وخطيب يملك كاريزما صوتية، لكنه يحمل خطاباً طائفياً متقلباً لا يُشبه المنهج الوسطي الذي لطالما ميز رجال الدين في لبنان، سواء أكانوا من السنة أو الشيعة أو الدروز أو المسيحيين.
اعتاد لبنان على أصوات سياسية حادة، وحتى على منابر إعلامية مأجورة من كل الاطراف تصرخ ليل نهار، لكن ما لم يعتده اللبنانيون هو أن تصدر هذه الخطابات التحريضية من تحت عمامة رجل دين.
في بلدٍ متعدد الطوائف هشّ التركيب، كان التوافق الضمني بين القيادات الدينية يقوم على التهدئة وتخفيف التوترات، لا تعميقها. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية في ظاهرة الشيخ مرعب كونه معمم رسمياً، وعضو في مؤسسة دينية، ومع ذلك يُطلق تصريحات تحمل أبعاداً مذهبية تقسّم الشارع بدل أن تُهدّئه.
في واحدة من تصريحاته اللافتة، قال الشيخ مرعب إنه “لن يسمح بإقامة عاشوراء في الطريق الجديدة”، رغم أن هذه المنطقة ذات غالبية سنية، ولم تُسجل فيها أي فعالية عاشورائية في السنوات الماضية.
الخطورة هنا مزدوجة فهو من جهة يختلق واقعة غير موجودة أصلاً، ومن جهة أخرى يؤسس لعداء مذهبي غير واقعي، ويُصور نفسه كحام لمجتمعه من خطر “وهمي” فقط ليرفع منسوب شعبيته ويصنع حالة من “المظلومية السنّية” تخدمه سياسياً.
سبق للشيخ مرعب أن عبّر عن مواقف داعمة لحزب الله في الحرب الاخيرة، قبل أن ينقلب لاحقاً داعماً لما يسمى انذاك بالثورة السورية في خطوة (لتصحيح موقفه) بعد انهيار الاسد وحجز مكان له، متبنياً خطاباً أقرب إلى السلفية الوهابية، وفق ما يظهر في فيديوهاته ومقالاته ومنشوراته.
ويبدو واضحاً أنه يسعى إلى تقديم أوراق اعتماده الفكرية والسياسية لمحور إقليمي محدد، في مقدمته المملكة العربية السعودية والامير يزيد بن فرحان، ما يجعله أشبه بـ”مشروع رجل دين سياسي”، وليس مجرد إمام مسجد محلي.
يمتلك الشيخ مرعب حضوراً قوياً على منصات التواصل الاجتماعي: إنستغرام، فيسبوك، إكس (تويتر)، يوتيوب… حيث تنال منشوراته مئات آلاف المشاهدات، خاصة عندما تتضمن عبارات شديدة اللهجة ضد الشيعة أو المسيحيين، أو تتقاطع مع قضايا خارجية تهم الجمهور السني.
لكن هذه المشاهدات لا تعني بالضرورة قبولاً شعبياً، فـفي منطقة الطريق الجديدة نفسها الشيخ مرعب شخصية إشكالية ومرفوضة في أوساط واسعة من أبناء المنطقة، الذين يرون أن خطابه يعكر صفو العيش المشترك المتقارب الى حد ما، ويشوه صورة الطريق الجديدة كمنطقة وطنية عابرة للطوائف.
العودة إلى تجربة الشيخ أحمد الأسير ليست في غير محلها. صحيح أن مرعب لم يحمل السلاح، لكنه يحمل نفس الخطاب، ونفس الطموح في “صناعة جمهور طائفي”، ونفس اللهجة التي تُقصي الآخر وتشيطنه وتعبّئ الناس ضده.. الفرق الوحيد أن مرعب حتى ساعة كتابة هذا المقال اختار طريق الكاميرا والسوشال ميديا.. لكن النتيجة قد تكون أخطر، لأن التحريض في الفضاء الرقمي لا سقف له، ولا توقيت يُلزمه .
وما يثير الاستغراب اكثر أن الشيخ مرعب يرفع لواء “الدفاع عن الطائفة” من قلب الطريق الجديدة المنطقة التي ارتبطت تاريخياً ببيت رفيق وسعد الحريري فإذا بأبناء هذه البيئة أنفسهم يتساءلون: أين كان صوته حين جرى احتجاز سعد الحريري في السعودية؟ كيف لرجل يقدم نفسه كـ”حام للكرامة السنية” أن يلوذ بالصمت يوم اهين زعيمهم السياسي في عقر دار المملكة التي يعلن اليوم ولاءه لها؟ هذا التناقض الفاضح يكشف أن مشروعه ليس دفاعاً عن الطائفة بقدر ما هو توظيف رخيص لمشاعرها في خدمة اجندة سوداء تُرسم للبنان.
الشيخ حسن مرعب لا يُمثل فقط حالة صوتية صاخبة، بل ظاهرة دينية هجينة، تُخالف تقاليد الاعتدال اللبناني، وتدفع باتجاه تمزيق النسيج الاجتماعي من داخل المنبر الديني نفسه.. إن ما يثير القلق ليس فقط مضمون تصريحاته، بل الشرعية التي يمنحها زيّه الديني لهذه التصريحات، في بلد لا يتحمل عودة الخطاب الطائفي إلى الواجهة ، لا على شكل مواجهات مسلحة، ولا على شكل فيديوهات “تحصد المشاهدات”
لكن الأخطر أن الشيخ حسن مرعب لم يتوقف عند حدود الخطاب الطائفي، بل تتحدث المعلومات انه منذ اشهر ينسج علاقات مع مجموعات مسلحة لبنانية وسورية ويضع نفسه في موقع “الشرارة الحتمية” في منطقة بيروت للحرب الاهلية التي تلوح في افق لبنان المأزوم.
لقد تجاوز الأمر إطار السجال المذهبي إلى التجرؤ على مرجعيات دينية وسياسية تمثل شرائح واسعة من اللبنانيين، في مسعى واضح إلى كسر التوازن الهش الذي قام عليه العيش المشترك لعقود.
ومن يراقب حسابات مرعب في “X” و”انستاغرام “ومنصاته الأخرى يدرك بسرعة كيف تترجم كلماته إلى تعبئة مذهبية خطيرة وكيف تتحول مقاطع الفيديو القصيرة إلى ذخيرة فكرية قادرة على شحن الشارع واستفزازه. هنا يكمن جوهر الخطر: رجل دين يتقن فنون التحريض الرقمي، ويمنح بخطابه الشرعية لجماعات مسلحة لبنانية وسورية وطرابلسية، في مشهد يُذكر بتجارب دموية دفعت لبنان ثمنها غالياً في الماضي.
فهل الشيخ حسن مرعب مجرّد إمام مسجد يهوى الصخب الإعلامي؟ أم أنه مشروع فتنة مكتمل الأركان، يمد خيوطه من بيروت إلى خلدة وطرابلس ودمشق، ويراكم العداء مع كل طرف وقف في وجه حكومة احمد الشارع في سوريا والفصائل التي واجهته؟
الأكيد أن ما يفعله اليوم يتجاوز حدود الاجتهاد الشخصي أو الخطاب الحاد؛ إنه مسار منظم يزرع بذور الانقسام الطائفي من جديد، ويحول رجل الدين إلى لاعب أمني – سياسي، تماماً كما فعلت نماذج سابقة جرّت لبنان إلى الهاوية.
وعليه، فإن الشيخ حسن مرعب ليس “صوتاً شاذاً” يمكن تجاهله، بل خطر حقيقي على لبنان، وختم جديد على مرحلة مظلمة قد يعاد فتحها، إذا لم تُوضع هذه الظاهرة في إطارها الحقيقي: تهديد مباشر للسلم الأهلي تحت غطاء الدين والإعلام.
وفي مواجهة هذه الظاهرة التي يجسّدها الشيخ حسن مرعب، تفرض المقارنة نفسها مع رجال دين كبار رفضوا أن يكونوا شهود زور على خراب الوطن فالإمام السيد موسى الصدر تحصن في احد مساجد بيروت ليقطع الطريق على نار الحرب الأهلية، والمفتي حسن خالد حول دار الفتوى إلى منارة اعتدال حتى ارتقى شهيداً على مذبح الوحدة الوطنية. اما مرعب، فينقض على هذا الإرث المضيء، ويجعل من عمامته خوذة للفتنة، ومن منابره منصات تحريض، ومن جمهوره ذخيرة لمعارك وهمية وربما تتحول حقيقية.. إنه الانتقال من رجال دين حموا لبنان بدمائهم الى رجل دين يغامر بمستقبله عبر إشعال فتيل حرب جديدة.
اترك ردك