في رثاء الشهيد حسين رميتي.. سنديانة جنوبية لا تركع

التاريخ عندما يُصنع أمامك تشعر أنك في لحظة حظ إستثنائية لن تتكرّر. لحظات ٌ من أحداث كنت تسمع عنها وتظن أنها مبالغ فيها حتى تمرّ أمامك وفي محضر حياتك لتؤكد أن هناك أبطال رسموا أحداث إستثنائية وحفروا في الزمن ليُمجّدوا لحظاتهم.

أقول هذا وأنا أنعي عمّي وحبيبي وقدوتي ومُرشدي وقائدي ، الزعيم إبن الزعيم ، الكبير وشيخ العشيرة في زمن أفول الأبطال ونهاية البيوتات الكريمة ذات اللمّة الحلوة الدافئة.

أنا أنعي شخصية إستثنائية جعلت منصب المخترة دوراً ذو صلاحيات رئاسية وزعاماتية عابرة للقرى والمدن . شخصية خلقت القواعد ثم أركعتها . إنساناً جمع بين العقل المستنير والأخلاق المُحافظة.

كان حسين رميتي “المُختار” ، رائداً ونهراً جارفاً من الطاقة والهِمّة وفعل الواجب . إنساناً شاباً ، سبق عمره في الكفاح والنضال وخدمة الناس ، ولم ينتصر عليه الزمن ، فظل سريعاً تُلاحقه الأوقات ولم تفلح في تخطّيه.

بدأ حياته مُناضلاً ومُقاوماً للذود عن أهله وقريته . ثم تولّى منصب “المختار” وهو في مقتبل العمر فكان أصغر مخاتير الجنوب وربما لبنان في حينه. في المخترة أبدع، خدم الناس دون مقابل واعتبر الخدمة واجباً وكان أهلاً لها .

لم يكتفِ بذلك . طموحه وشغفه حوّله إلى رقم صعب في المنطقة . هو أوّل من عمل على لمّ الشمل بين أبناء الجنوب حتى قبل ما عُرف بزمن ” وحدة الصف” . فكان مقصداً للجميع من دون استثناء. حلاّل للمشاكل ، تسووي ذو عقلٍ نيّر وأسد كرّار غير فرّار في لحظات التحدّي.

” العم ” من الشخصيات التي كانت تستمتع في خدمة الناس . ويعتبر هذا الشيء فعل إيمان وواجب . فلم يكن تقليدياً على المستوى الفكري الديني بل خاض في سجالات عميقة مع رجال الدين من كل الأطياف . كان يرى أن الدين واحد من دون مذاهب وكان يكنّ إحتراماً لباقي الأديان . قصده المسيحي قبل المسلم ولم يُقصّر مع أحد .أخذ مسافة عادلة من كل الأحزاب والتنظيمات ، فمن مثله صعب أن يحتويه تنظيم. لذلك ، كان خدوماً للجميع إنطلاقاً من إنسانيته فقط لا غير.

أما مكنوناته فَلِ “علي ” مساحة خاصة في قلبه وعقله . كان قدوته وبوصلته. تأثّر كثيراً بمسلكيات علي بن أبي طالب ، الجميع رأوه زاهداً في ملبسه ومأكله رغم أنه ميسور الحال . لم تظهر عليه الفشخرات وتفاهات الزمن . كان رجلاً من جيل القدماء لكنه استطاع مخاطبة جيل اليوم .

حسين علي رميتي لم يكن خرّيج جامعة ولكن في مجلسه ، يُنصت له الدكتور والمهندس والتلميذ والفلاّح والوزير والنائب والرئيس ويلجؤون إليه للمساعدة ويُسلّمون بقراراته.

هو قائد بالفطرة كأبيه . يأبى أن يعلو أحد عليه ومتواضع تراه يُنادي الرعاة في وادي الحجير لكي يأتوا ويجلسوا في ديوانيته ليذهب هو ويهشّ بعصاه على الأغنام في البرية .” النبي كان راعي ” كان يقول لي. كل راعي في الوعر يعرف كرمه وطيبته وطينته.كانوا يرون فيه عظيماً يُجالسهم وينزل عند خاطرهم . ولطالما حلّ مشاكل كانت عصيّة على نواب ومسؤولي المنطقة وهو في وعر الجبال والوديان . فلم يُقم وزناً للمظاهر ولم يُعرها أي انتباه .

أذكر في مرة من المرات كنت معه وكان يشكو لي همّه ووجعه الخاص فنصحته باعتزال الناس ، فأنا جربّت إعتزال الناس والمجتمع ولجأت إلى عالمي حينها. نصحته أن يبقَ في المطحنة في وادي الحجير ويبتعد عن الناس وهمومهم . وبالفعل استجاب لنصيحتي . قرّر حينها إعتزال الناس والإبتعاد عنهم لكن الناس لم يعتزلوه فلحقوا به إلى مطحنته بهمومهم ومشاكلهم وفرحهم وحزنهم. اقتنع حينها أن دوره مُحدّد له ولا يمكن فعل شيء وتقبّل مصيره. فأينما جلس على الطاولة كان ذلك رأس الطاولة وأينما حضر تسيّد المشهد، في الوادي أو في الصالونات .

ومن صُلب تفاصيل شخصيته أنه إنساناً عملياً، يُخطّط بسرعة من دون تنظير بل يسبق فعله كلامه . هو منسّق ومُخطّط وعقلاً رائعاً وجريئاً في التنفيذ ولا يخشى شيئاً.
عمل في وقت من الأوقات على ملف الأرض في قريته ، ووجد حلاً لها يُرضي الأغلبية ويُنهي الملف بعد مشكلة في المحاكم دامت لأكثر من ثلاثين سنة . وتولى في فترة من الفترات ملف أكثر من ٧ قرى في الجنوب لتنظيم التحالفات الإنتخابية وتقريب وجهات النظر . ونجح في كل ذلك .

وطوال الحروب الماضية وحتى الحرب الحالية ، لم يترك قريته برج قلاويه . بقي فيها وصمد . يُراقب ويحرس أرزاق الناس وممتلكاتهم . جريئاً مقداماً شُجاعاً يقفز إلى الموت ويسخر منه .هو يعشق الأرض وترابها فهذه عادة فلاّحية افتخر بها.

الكل أحبّه وإختلف مع الجميع لكنهم يُجمعون على همّته وشهامته وأخلاقه. كان متسامحاً وذات عقل كبير ويستوعب الجميع . فنّاناً في إدارة المشاكل ومُبدعاً في إبتكار الحلول .
وهو في ساحته نجماً في زمن ما قبل الكاميرا والسوشيال ميديا وبعدها فالكل يُلاحقه ليتصوّر معه . لاحقته الإشاعات لكن لم يلجأ إلى التفاهة لشدّ الانتباه له بل كان محور الحدث بأصالته ورزانته ورجولته وزعامته .
بقيَ مقداماً حتى آخر حياته . لم يفر من معركة ، بل قفز إلى الخطر ودعس على هيبة الموت ونال مبتغاه.

كان آخر لقاء معه من حوالي أربع سنوات ، ليلة سفري زارني ، شرب أركيلته مع والدي دون أن يلتفت لي . استغل دخولي الى الغرفة وعاد الى منزله وعندما خرجت لم أجده . لحظات وهاتفني قائلاً:” ما بحب لحظات الوداع . شدّ حالك وانتي أدّا والله يوفقك بسفرك” .

 ” أبو حيدر” هو أسطورتنا الصحيحة وعِزّ الرجال وخيرة النُخبة ومجدنا الأبدي . هو قصتنا الرائعة التي سنرويها للأبناء والأحفاد . بطولة حيّة شهدناها وقلنا” آمنا” بقلوب مُطمئنة. ظاهرة خالدة كان حسين رميتي ، بتفاصيله ومعاركه وأُسلوب حياته .

هو سنديانة جبل عاملة وزيتون الجنوب العصي على ويلات الزمن ونكباته . هو المنتصر في كل لحظات حياته والمَهيب الذي لا يُعصى له أمر .

وداعاً يا عم.
ابن أخاك هلال رميتي