علي منصور
في ذاكرة اللبنانيين، لا يُذكر اسم فيليب حبيب دون أن يترافق مع لحن ساخر تردّد في الشوارع والمقاهي في ثمانينيات القرن الماضي:
“بيب بيب بيب… إجا فيليب حبيب
بيب بيب بيب… رجع فيليب حبيب”
غنّاها فليمون وهبي بصوته الشعبي المتهكّم، لتصبح أكثر من مجرد أغنية، بل اختصارًا ساخرًا لحقبة دبلوماسية أميركية بدت وكأنها تدور في حلقة مفرغة: موفد أميركي يصل، يفاوض، يُجامل، ثم يغادر… والجبهات ما تزال مشتعلة.
اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، يُطلّ علينا وجه أميركي جديد، لا يحمل اسمًا عربيًا كما حبيب ، لكنه مثله لبناني الدم والأصل: إنّه توماس جوزيف برّاك، المبعوث الرسمي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي زار لبنان ثلاث مرات في أقل من شهرين، محاولًا أن يلبس قناع “المنقذ” في بلد تُشبه خرائطه السياسية براكين معلّقة فوق رؤوس الناس.
فما الذي تغيّر بين حبيب وبرّاك؟ وهل تغيّرت واشنطن… أم تغيّرت بيروت؟
فيليب حبيب: الموفد الذي جاء مع الدبابة الإسرائيلية
وصل فيليب حبيب إلى لبنان عام 1982، في عزّ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. لم يكن حاملًا خارطة سلام بقدر ما جاء ليدير عملية إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
مارس حبيب ما يُعرف بـ“الدبلوماسية الوقائية”، محاولًا انتزاع اتفاق بين القوات الإسرائيلية الغازية ومنظمة التحرير الفلسطينية – ثم بين إسرائيل وسوريا – ثم بين جميع اللاعبين اللبنانيين أنفسهم.
لكن النتيجة كانت صفرًا كبيرًا على المستوى السياسي، باستثناء ترتيب مغادرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مع منظمة التحرير بيروت إلى تونس، وسط رعاية بحرية أميركية وفرنسية.
كان حبيب مثاليًا في خطابه، لكنه أدار مرحلة دموية انتهت بمجزرة صبرا وشاتيلا، بعد انسحاب قوات منظمة التحرير وبقاء المدنيين العزّل. وهنا، انكسر الخطاب، وبقي في الذاكرة لحن:
“بيب بيب بيب… إجا فيليب حبيب…”
فكأنّ حضوره كان مجرد إشارة إلى دخول مرحلة جديدة من الحرب اللبنانية، وهي مرحلة “إدارة الموت” بإشراف أميركي مباشر.
توماس برّاك: الوجه الأميركي بـ”الطربوش اللبناني”
برّاك لم يأتِ مع دبابة فحسب، بل اصطحب معه مسيّرات وطائرات و”خريطةً جديدة” للبنان… خريطة لا تُرسم بالحبر بل تُفرَض بالضغط. زار البلاد ثلاث مرّات في أقلّ من شهرين، جال بين القصور والمقارّ، التقى رؤساء ونافذين ومرجعيات حزبية وروحية، وطرح ما سمّاه “خطة لإعادة بناء الدولة”.
لكن حين تدقّق في تفاصيل خطته، تكتشف أنها أقرب إلى عملية تفكيك ممنهجة للدولة، وإعادة تركيبها وفق مقاسات واشنطن وتل أبيب، لا وفق حاجات اللبنانيين أو أولوياتهم.
هو لا يقترح إصلاحًا تدريجيًا، بل يُمهّد لانقلاب سياسي واقتصادي مكتمل الأركان: سلاح المقاومة خارج الدولة، الدولة تحت الوصاية، والهوية قيد إعادة الصياغة. واللافت أنه يطرح كل ذلك من دون أي ضمانات، لا بوقف الاعتداءات الإسرائيلية، ولا بإنهاء الخروقات، ولا حتى باحترام الحدود الدولية.
مشروع برّاك لا يُشبه دبلوماسية؛ بل أقرب إلى هندسة جيوسياسية، يُراد فرضها على بلد أنهكه الانهيار. وهو بذلك لا يفاوض، بل يُساوم: إمّا الانصياع، أو العودة إلى “حضن الشام” كما يُحذّر، وكأنّ الخيار الوحيد المتاح للبنان هو بين التفكّك الذاتي… أو الذوبان الإقليمي
يحمل برّاك مشروع إعادة هندسة الجغرافيا السياسية، فهو لا يسعى إلى حلّ دبلوماسي يحقق تسوية. وهنا تكمن الخطورة: فبرّاك لا يتحدث عن هدنة أو اتفاق لوقف إطلاق النار، بل عن نسف الهوية السياسية للبنان كما نعرفها، وهو يريد تجاوبًا لبنانيًا ورضوخًا دون أي ضمانات بالانسحاب الإسرائيلي ووقف الاعتداءات على لبنان.
كما يريد، بكل سذاجة، إقناع اللبنانيين بأنّ الولايات المتحدة لا تملك تأثيرًا على دولة الاحتلال ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو.
وإذا كان فيليب حبيب قد أدار معركة الجلاء الفلسطيني عن لبنان، فإنّ برّاك يدير اليوم معركة تجريد لبنان من كلّ عناصر القوّة والمناعة بوجه إسرائيل، دون تقديم ضمانات، ودون جلاء الاحتلال الإسرائيلي.
فيليب حبيب كان يُجسّد السياسة الأميركية في ظل الحرب الباردة، حيث كانت إسرائيل رأس الحربة. أمّا برّاك، فهو جزء من مشروع شرق أوسط جديد، تُرسم فيه الخرائط، وتُعاد فيه كتابة الهويات والدول في ظلّ أحادية قطبية تتمتع بها واشنطن.
لبنان بين الأغنية القديمة… والمشهد الجديد
أغنية فيلمون وهبي، وإن كانت ساخرة، عبّرت بصدق عن شعور شعب يرى المبعوثين الأميركيين كزوار ثقيلين غير مرحّب بهم.
في الماضي، كان الشعب يغنّي كلما دقّ جرس المطار مبشّرًا بقدوم المبعوث الأميركي:
“بيب بيب بيب… إجا فيليب حبيب…”
واليوم، فالشعب سيغنّي ساخرًا:
“تيك توك تاك… إجا توم برّاك!”
لكنّ الخطر الحقيقي ليس في الإيقاع، بل في المضمون. فبرّاك – بخلفيته الاقتصادية والسياسية، وعلاقاته الإسرائيلية – الخليجية، وقربه من صناعة القرار في واشنطن – لا يُخفي أن مشروعه يتجاوز لبنان… إلى منطقة أكبر وأوسع، منزوعة السلاح، عديمة المناعة، تتسيّدها إسرائيل عسكريًا، وسياسيًا، واقتصاديًا.
اترك ردك