ألمانيا التي تغنّى بها العالم كنموذج للرفاهية والقوة الصناعية تتحول اليوم إلى بلد يترنح تحت ضربات العجز والانكماش. الطبقة الوسطى، التي شكّلت عماد الدولة الحديثة، تنهار أمام أعين أبنائها. والسياسيون يعترفون علناً: لم نعد قادرين على تمويل أنفسنا. سؤال المواطن الألماني اليوم بات مؤلماً: كيف انهار كل شيء بهذه السرعة؟ هل انتهت حقبة ألمانيا المزدهرة، أم أننا أمام بداية سقوط أكبر؟
الأرقام صادمة، والتوقعات أكثر قتامة. تقارير من مؤسسات إعلامية عريقة تتحدث عن نهاية عصر كامل، وبداية قصة انهيار العملاق الأوروبي.
شرارة الانهيار: الطاقة
القصة بدأت مع الغاز الروسي. منذ إغلاق موسكو صمامات الغاز عقب حرب أوكرانيا، ارتفعت فاتورة الطاقة الألمانية إلى مستويات قياسية. المصانع التي كانت تعتمد على الطاقة الرخيصة فقدت قدرتها على المنافسة. شركات كبرى مثل BASF وBMW أعلنت نقل استثماراتها إلى أمريكا والصين حيث الطاقة أرخص والحوافز أكبر. في المقابل غرقت ألمانيا في أزمة كهرباء وتكاليف إنتاج خانقة، مما وجّه ضربة مباشرة للصناعة، ولخزينة الدولة التي فقدت عائدات التصدير.
المواطن في قلب العاصفة
الفاتورة المنزلية للطاقة تضاعفت أكثر من مرتين خلال ثلاث سنوات. الأسعار في المتاجر لم تعد كما كانت، والتضخم يلتهم القدرة الشرائية. بلدٌ كان رمزاً للرفاهية يسجل اليوم أعلى نسب فقر منذ عقود. الطبقة الوسطى تكافح من أجل البقاء، بعد أن فقدت قدرتها على الادخار. حتى النظام الصحي لم يسلم: المستشفيات في القرى تغلق، نقص الأطباء والممرضين يتحول إلى أزمة وطنية، والسياسيون يقرون: دولة الرفاهية لم تعد قابلة للتمويل.
شيخوخة ديموغرافية وأزمة اجتماعية
ثلث السكان سيتجاوزون 65 عاماً بحلول 2040. من سيموّل تقاعدهم؟ الأجيال الشابة أقل عدداً وأضعف قدرة على التمويل. فجوة ديموغرافية تنذر بأزمة مستدامة. ومع تزايد تكاليف الشيخوخة واللاجئين والرعاية الاجتماعية، تغرق ميزانية الدولة أكثر فأكثر.
الصناعة تتفكك
شركات السيارات الألمانية التي قادت ثورة القرن العشرين تتراجع أمام الغزو الصيني للسيارات الكهربائية. فولكسفاغن ومرسيدس تفقدان حصصاً في السوق، فيما تُسجل بكين صعوداً صاروخياً. المفارقة أن ألمانيا التي قادت الابتكار الصناعي بالأمس، متأخرة اليوم عن الثورة الكهربائية، وعمّال مصانع السيارات يعيشون قلق الإغلاق والهجرة نحو آسيا وأمريكا.
السياسة على فوهة بركان
الغضب الشعبي يتفجر. البطالة تتصاعد مع تسريح الشركات للموظفين، والمظاهرات ضد الغلاء والحكومة تتكاثر. هذا الغضب يغذي صعود اليمين المتطرف، وحزب “البديل من أجل ألمانيا” يحصد نقاطاً بخطاب شعبوي خطير: “لن ندفع ثمن اللاجئين.. لن نمول أوروبا”. المشهد السياسي بات هشاً، والنظام الذي كان يوماً رمز الاستقرار يعيش اليوم تحت تهديد الانقسام والتفكك.
ما بعد ألمانيا الجميلة
المراقبون يجمعون: هذه ليست أزمة طاقة عابرة، بل انهيار هيكلي يضرب قلب النموذج الألماني. ما ينتظر الألمان هو مرحلة تقشف طويلة وصراع للبقاء. والأسوأ أن سقوط برلين لا يخص الألمان وحدهم، بل يهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله، من باريس إلى مدريد وروما.
اليوم، اليورو يفقد قيمته مع ضعف الاقتصاد الألماني، والاتحاد الأوروبي يواجه خطر زعزعة أركانه. ألمانيا التي كانت “قلب أوروبا النابض”، باتت مهددة بأن تتحول إلى عبء على مشروعها الأوروبي.
اترك ردك