“المسحّراتي” بين الأمس واليوم… مهنة فقدت الكثير من رونقها

كتب مايز عبيد في نداء الوطن:

بقيت مهنة المسحّر الرمضاني محافظة على وجودها هذه السنة، مع أنها تعرّضت على مدى السنوات الأخيرة إلى تغييرات أو تطورات لم تكن معهودة في أصول التسحير المتوارثة عبر التاريخ، وأثّرت على روحية هذه المهنة التي كانت تشكّل رمزاً من الرموز الرمضانية الأساسية وتقليداً سنوياً متوارثاً.

فمن عكار إلى طرابلس مروراً بالمنية والضنية، لا يزال “مسحر رمضان” أو المسحّراتي يجوب الشوارع والأحياء في المدينة أو القرى والمناطق، إذ ينحصر عمله في هذا الشهر فقط، ويدعو الناس لتستيقظ على السحور قبل حلول موعد أذان الفجر وبداية نهار الصوم. ولا زال التنسيق بين المسحرين قائماً إذ في حال كانت القرية واسعة ومترامية فهناك حاجة لأكثر من مسحّر يأخذ كل منهم على عاتقه حياً أو أكثر، وهذا الأمر حكماً لا زال موجوداً في المدينة.

وغالباً ما يبدأ المسحّر جولته قبل موعد الإمساك بساعتين أي من حدود الساعة الثانية فجراً وهو يردد عبارات تعبّر عن الشهر الكريم وعن عمله التنبيهي من مثل: “يا نايم وحّد الدايم… يا نايم اذكر الله… يا نايم وحّد الله… قوموا على سحوركم جاي النبي يزوركم”، كما يردد أحياناً بعض المدائح النبوية.

المسحراتي في التاريخ:

بحسب المؤرخين، “المسحراتي” ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر “عتبة بن إسحاق” أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة، اذ كان يطوف شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها وقت السحر”.

وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجلاً للقيام بمهمة المسحراتي.

وقد تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على أيدي المصريين، الذين ابتكروا الطبلة ليحملها “المسحراتي” ليدق عليها بدلاً من إستخدام العصا. هذه الطبلة كانت تسمى “بازة” وهي صغيرة الحجم، يدق عليها “المسحراتي” دقات منتظمة، وهو يشدو بأشعار شعبية وعبارات خاصة بهذه المناسبة، وهي لا تزال موجودة إلى اليوم في مصر.

رمضان 2023:

في لبنان وتحديداً في مناطق الشمال دخلت على هذه المهنة الكثير من المتغيّرات هذه السنة والسنوات السابقة. فمن حيث الأشخاص الذين يعملون بالتسحير، وبعد أن كانت مهنة محددة بعائلات معروفة بالزهد كما في طرابلس أو بشخصيات معروفة بالورع كما في عكار، وكان من يمتهنها يمتاز بجمال الصوت والأداء، دخل شبانٌ ومراهقون صغار مجال التسحير، بعضهم أبناء مسحّرين وبعضهم الآخر ليسوا على صلة بالموضوع من الأصل، ولكنهم وجدوا فيها وسيلة لكسب بعض المال خلال شهر رمضان. فمن المعروف بأن المسحراتي يجول على البيوت في آخر يوم من رمضان، ليعايد الأهالي بعيد الفطر ويأخذ عيديته، أي ما تجود به نفوس الناس لهذا الشخص الذي تعب طوال الشهر في إيقاظهم.

أما من حيث الطقوس أيضاً فكان المسحّر في سنوات خلت وتحديداً عندما لم تكن هناك إنارة في الشوارع، يرافقه شخص آخر يحمل له الفانوس الرمضاني من أجل الضوء.. في السنوات الأخيرة اختفى هذا التقليد، مع انتشار أعمدة الإنارة على الطرقات، أما في حال انقطاع التيار الكهربائي كما في هذه الأوقات، فلا يتردد المسحّر ومن معه من الشبان – أو المطبّل كما يسمونه أهل القرى – باستعمال مصباح هاتفه الخلوي للإنارة. ومن الجدير بالذكر أن بعض الشبان يستعملون أحياناً دراجاتهم النارية للتنقّل بين الأحياء وتسهيل العمل، كما أن من الأمور الطارئة التي نشاهدها في عملية التسحير في مناطقنا دخول لاجئين سوريين على المهنة، واستعمال بعض المسحراتية للدربكة مكان الطبل.

لا اكتراث:

في السابق كان الأهالي ينتظرون مرور المسحّر ويوقظون أطفالهم ليشاهدونه كما ليدقّوا على طبلته. لا بدّ من الإشارة اليوم إلى حالة من عدم الإهتمام بهذا التقليد الرمضاني باتت تطغى مؤخراً. إذ لم يعد الكثيرون يهتمون للمسحّر كائناً من كان، لأن لا حاجة لهم به ليوقظهم، فهم إما يسهرون حتى موعد الفجر وهذه باتت عادة شائعة، أو يستعملون منبّهات الهواتف للإستيقاظ أو لا يقومون على السحور من الأصل. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن مسحّر أيام زمان كان يعرف الناس جميعها في مدينته أو في قريته، وكان يمر من جانب كل بيت وينادي على صاحبه داعياً إياه للإستيقاظ على السحور، والكل يتذكّر المسحراتي المرحوم (أبو طلال) في طرابلس والمسحراتي (أبو محمود) في إحدى القرى العكارية. أما مسحراتية هذه الأيام فيمرّون في الأحياء يدقون على الطبول بدون ابتهالٍ ولا مناداة.

ما يحدث في السنوات الأخيرة يشير بدون شك إلى أن مهنة التسحير قد خرجت عن مألوفها وموروثها التاريخي وما يجعلها باقية إلى اليوم ليس لأنها تقليد بقدر ما أن هناك من يمارسها من العاطلين عن العمل في الأصل لجمع بعض المال في نهاية شهر الصوم.


Exit mobile version