منذ وقوع الزلزال، في السادس من الشهر الماضي في تركيا وسوريا، وعدد من الفرق الهندسية يجول على المباني للكشف عن عيوبها، حيث تبيّن أن أغلبها سببُه هو الإهمال، وجزءاً قليلاً منها سببُه خلل في أصل الإنشاء، ولكن ما يدعو للقلق حقاً هو عدم مطابقة بعض الأبنية المبنية بعد عام 2012 لمرسوم السّلامة العامة
تحوّلت نظرة اللبنانيين إلى البيوت والمباني بعد الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا وسوريا من السّقف الآمن، إلى التهديد المحتمل. وتتزايد أسئلة الناس عن مدى مقاومة منازلهم لقوة الطبيعة، أو مدى قدرتها على الصمود أمامها من دون انهيارات تجعل من الطابق الأخير طابقاً أرضياً. تُطرح هذه الأسئلة رغم أن لبنان ليس دولةً ذات تاريخ حافل بانهيارات المباني، وبعض المشاهد المتفرّقة التي يُطلب فيها إخلاء بعض الأبنية المهدّدة بالانهيار لأسباب إنشائية تكون على صلة بأمر من اثنين، إمّا بناء مخالف من الأساس أو صيانة سيّئة. في المجمل، يقول أحد المقاولين: «لا نوفّر في نوعية الترابة وكميّة الحديد، وهما العاملان الأساسيان لمتانة وصلابة أيّ مبنى».
التزام نسبي
ولكنّ غياب الهزّات الأرضية الكبيرة في لبنان منذ عام 1997، عندما وقعت هزتان أرضيتان في يوم واحد بقوة 5.8 درجات، يغيّب معه فكرة «البناء المقاوم للزلازل» عن أذهان أصحاب مشاريع البناء، سواء كانوا من تجار البناء، أو المواطنين الذين يبنون منازل فردية. حتى على مستوى الدولة لم تُذكر كلمة «المخاطر الزلزالية» في قوانين البناء قبل القانون 646 الحالي، والصادر عام 2004. إلا أنّ حساب عدد الأبنية المقاوِمة للزلازل لم يبدأ إلا بعد مرور ثمانية أعوام على صدور القانون، مع صدور مرسوم السّلامة العامة الرقم 7649. فمنذ ذلك الحين، صارت الأبنية الجديدة ملزَمة بإنشآت معيّنة تساعد على مقاومة زلازل «تصل قوّتها إلى 7 درجات»، يقول مهندس إنشائي. وبحسب إحصاءات نقابة المهندسين، يبلغ عدد المباني المُنشأة خلال وبعد صدور المرسوم الخاص بالسّلامة العامة 96.905 مبانٍ، بمساحة تُقدّر بـ77 مليون متر مربّع. ولكنّ المفاجآت تبدأ عندما يُجمع عدد من المهندسين الإنشائيين على أنّ «المباني المنشأة بعد عام 2012 ليست كلّها مطابقة للمواصفات المقاوِمة للزلازل». ويشير أحدهم إلى «تقديمه أكثر من مرّة طلب رفع مسؤولية عن نفسه للنقابة، على إثر إصرار المقاول وصاحب المشروع على مخالفة مرسوم السّلامة العامة»، حينها «كان يجب على التنظيم المدني التدخل وإيقاف الورشة، وهو ما لم يحصل».
مشاهدات حيّة
جاءت انهيارات الأبنية المرافقة للزلزال في كلّ من تركيا وسوريا، لتحيي مخاوف اللبنانيين من ملاقاة مصير مشابه لمشاهد إطباق المباني على نفسها. ولجأ عدد غير قليل منهم إلى الفرق الهندسية في المناطق طالباً الإجابة على السؤال الأهم «هل المبنى سليم إنشائياً؟»
وبالفعل، يستطلع عدد من المهندسين الأبنية على مختلف الأراضي اللبنانية تقريباً، للتدقيق في الأساسات والإنشاءات والأسقف وحتى الحديد داخل الأعمدة، في محاولةٍ لوضع تقييم عام للحال. يقسّم أحد رؤساء هذه الفرق، المهندس الإنشائي جهاد حيدر أحمد المشاكل التي يعاينها إلى أجزاء: «هناك أبنية لن يُكشف عليها، خوفاً من انهيارها فوق رأس الفريق، ومن دون هزات حتى»، مشيراً إلى «وجود أبنية قائمة على أراضٍ رملية، بلا أساسات». ويصف التشقّقات التي عاينها فيها بـ«الفظيعة»، ويشبهها بـ«بعض الأبنية التركية، التي أقيمت على أرضٍ متحركة، من دون تثبيت، فأصبحت كالشجرة بلا جذور».
الجزء الآخر من المشكلة يتعلّق بإدارة المبنى وصيانته. في لبنان، نواجه أزمة إهمال في معظم الأبنية والأقسام المشتركة فيها، سواء تلك التي أقيمت قبل مرسوم السّلامة العامة أو بعده. وتتركّز الأزمة في الطوابق الأرضية، وهي الأخطر والأكثر حساسية، كونها تحمل المبنى كلّه، وقد تؤدّي إلى خلخلة الأساس، «النشّ يأكل الأعمدة، ويكشف الحديد بعد تشقق الباطون، ويُقصّر من عمر المعدن الافتراضي، فتصبح السّنة موازية لعشر سنوات» بحسب حيدر أحمد، الذي يؤكّد على ضرورة «إعادة صبّ هذه الأعمدة، وزيادة أحجامها».
التدعيم ضرورة
فيما يخصّ الأبنية المقامة قبل صدور مرسوم السّلامة العامة، وغير المصمّمة إلزامياً ضد الزلازل، وقد لا تتحمّل هزات قويّة، فـ«لا يزال التدعيم ممكناً»، بحسب حيدر أحمد، و«لكن لا يشمل كامل المبنى، إنّما الطوابق السّفلية فقط حيث الخطر الأكبر جرّاء أي زلزال، عبر إقامة حيطان الدعم المتقابلة. أمّا الذهاب أبعد من الطوابق الأرضية فيحتاج إلى أعمال تكسير، ومن الصعب جداً القيام بها»، مشيراً إلى «طلب بعض لجان الأبنية تقديم دراسات، وسيقومون بتنفيذ هذه المشاريع».
هذا في الأقسام المشتركة، أما الشقق من الداخل فهي ليست في مأمن أيضاً، إذ يذكر حيدر أحمد «وجود اهتراء كبير في بعض الأسقف نتيجة تسرّب المواد الكيميائية المستخدمة في التنظيف المبالَغ فيه داخلها، ما يجعلها خطيرة للغاية في حال وقوع هزّات، بسبب تفتّت الباطون وظهور الحديد في الأسقف». أمّا العلاج، فيكون بـ«تكسير الحمامات، وعزل أرضياتها». ويميّز حيدر أحمد بين الأبنية في بيروت وتلك في القرى «في الأولى المشاكل لا تنتهي، وفي القرى هناك شبه عدم التزام بتوصيات المهندسين، إذ تقام البيوت من دون جدران خرسانية، على الأعمدة فقط، للتخفيف من الكلفة، ومنهم من يوفّر أيضاً في سماكة الأعمدة».
محاكاة الزلازل
بهدف المساعدة، يقوم رئيس إحدى الفرق الهندسية أشرف الفطايري بـ«إجراء كشوفات مجانية أوّلية على حالة المباني». يقول إن «95% من الزيارات مجانية، ولا تحتاج إلى تدخل هندسي للتدعيم، وفي حال طلب السّكان كشفاً تقنياً موسّعاً، تدخل التكلفة المادية التي تصل إلى 4 دولارات لكلّ متر مربع من المبنى، لا تشمل تكلفة التدعيم، إذ يقوم الفريق بأخذ عيّنات من الخرسانة، ويحوّل المبنى إلى نموذج على الحاسوب، ومن بعدها تُجرى محاكاة زلزالية افتراضية بغية معرفة مدى مطابقة المواصفات لتوصيات نقابة المهندسين، والقدرة على تحمّل هزة بقوة 7 درجات». وتسمح هذه الحسابات بمعرفة مكان الخلل، وبالتالي طرح الحلول فـ«تُعاد تقوية الأعمدة عبر تكبيرها، وزيادة قياساتها»، مع الإشارة إلى أنّ هذه الأعمال «قد تتطلّب تكسيراً داخل البيوت، وتكلفةً مالية تصل إلى حدّ 10% من سعر المبنى، إلا أنّ هذه المبالغ تُعدّ ربحاً».
ويشير الفطايري إلى بعض مشاهداته خلال أعمال الكشف، التي تساعد الناس على استعادة الثقة، فـ«هناك مبانٍ أقيمت في ثمانينيات القرن الماضي وضعها الإنشائي ممتاز، ولا توجد فيها تشقّقات أو نش، ومن الممكن أن تتحمّل هزّات بقوّة 7 درجات، وهي دليل على أنّ الأعمال السّابقة كانت جيّدة، وليس شرطاً أنّ المبنى القديم لا يتحمّل»، وفي الوقت نفسه هناك «العشوائيات ذات الوضع السّيّئ للغاية».
اترك ردك