الموسم القاتل… 62% من وفيات الصيف في لبنان بسبب الغرق: أكثر من نصف دون سن الـ18 وغالبيتهم من الذكور

كتبت راجانا حمية في صحيفة الأخبار:

لا يكاد يمرّ يوم من دون خبر عن حادثة غرق. موتٌ يأتي مجاناً، ولا يترك أثراً، إذ غالباً ما تُقفل حياة الضحايا بانتهاء الخبر. اللافت أن هذه الأخبار باتت تمرّ كأنها طبيعية، ربما لأنها تُربط في أذهان كثيرين بموسم السباحة وما يرافقه من حوادث عرضية. لكن هذه السذاجة في الربط تُغفل الحقيقة الأهم: أن هناك من يموت بصمت، من دون أن يدفع ذلك أحداً إلى إعداد خطة طوارئ ترافق موسماً تحوّل إلى موسم قاتل.

غالباً ما تضيع أخبار الغرقى وسط ضجيج الأحداث اليومية، إلا أن نظرة دقيقة إلى الأرقام تكشف واقعاً صادماً. فموسم السباحة بات السبب الأول للموت خلال أشهر الصيف.

إذ إن 62% من الوفيات التي تحصل بين أيار وآب من كل عام، وهي الفترة التي يُفتتح ويُقفل فيها موسم السباحة رسمياً، تتعلق بالغرق، وذلك وفق تقرير أصدرته وزارة الصحة، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، يستند إلى بيانات قوى الأمن الداخلي عن الحوادث المائية والوفيات المبلّغ عنها بين 2016 و2024.

لكن هذه الذروة الصيفية ليست أسوأ ما في الأمر. فالمأساة تكمن في هوية الضحايا: أكثر من نصف الذين يقضون غرقاً هم دون سن الثامنة عشرة (54%)، وغالبيتهم الساحقة من الذكور (86 من كل 100).

وفي هذا السياق، لا يستغرب زياد الحلبي، رئيس الجمعية اللبنانية للوقاية من الإصابات الرياضية (LASIP)، أن يكون الأطفال هم الضحايا الأبرز. فـ«الأطفال غالباً ما يغرقون بصمت، من دون صراخ أو مقاومة، ما يجعل غرقهم يحدث بسرعة ومن دون أن ينتبه أحد».

ويلفت إلى أن موت هؤلاء غالباً ما يجرّ موتُهم موتاً آخر، إذ إن «معظم حالات إنقاذ الغرقى تنتهي بمأساة»، موضحاً أن 70% من محاولات الإنقاذ تنتهي بموت المنقذ، لأن الغريق يتحوّل في تلك اللحظة إلى «غريق شرس»، يجرّ معه من يحاول مساعدته. وغالباً ما يكون هؤلاء المنقذون من غير المدربين، ممن يندفعون بدافع الغريزة والهلع، من دون امتلاك المهارات اللازمة.

سجّل موسم السباحة لهذا العام خمسين حالة غرق، بحسب منظمة الصحة العالمية. لكن يصعب اعتبار هذا الرقم نهائياً أو دقيقاً، بل أقرب إلى التقديرات منه إلى الحقيقة.

فكثير من حالات الغرق لا تُسجّل كوفيّات غرق، خصوصاً عندما لا يتوفى الغريق لحظة وقوع الحادث، إذ يُنقذ بعض الضحايا أولاً ويُنقلون إلى المستشفيات لتلقّي العلاج، وإذا فارقوا الحياة لاحقاً، لا يُدرجون ضمن إحصاءات الغرقى.

لذلك، يؤكد متابعون إن الرقم الحقيقي قد يكون مضاعفاً، وأن «الخمسين» قد تعني في الواقع مئة ضحية. ويُضاف إلى هذا الغموض غياب إحصاء موحّد وموثوق، نظراً إلى توزّع البيانات بين جهات عدة، كالدفاع المدني، والصليب الأحمر، وقوى الأمن الداخلي، وغيرها، وهو ما يجعل من الصعب جداً التوصّل إلى رقم دقيق وواضح لحصيلة موسم الغرق.

وبعيداً من الأرقام ثمّة ما هو أهم: عشرات الأرواح تزهق في غفلة من السلامة العامة. والمأساة الأكبر، كما يقول الحلبي، أن هذه الخسائر «يمكن تجنبها في معظم الأحيان».

وهنا تبرز مسألة المسؤولية عن هذا الموت المجاني، وهي مسؤولية متداخلة تبدأ من الدائرة الأقرب، أي العائلة، ولا تنتهي عند الدولة، مروراً بوزاراتها المعنية، من الأشغال العامة والنقل، إلى السياحة، وصولاً إلى السلطات المحلية والبلديات.

يبدأ الحلبي من الحلقة الأصغر، أي العائلة، مشدداً على أن المسؤولية الأولى تقع على الأهل، سواء من حيث مراقبة أطفالهم أثناء السباحة، أو منعهم من دخول المياه عندما تكون الظروف غير ملائمة، كارتفاع الأمواج أو تقلبات الطقس. وتتفاقم هذه المسؤولية تبعاً للمكان والوضع الاقتصادي، إذ إن الغالبية العظمى من حوادث الغرق تقع في المسابح العامة والشواطئ الشعبية التي يقصدها أصحاب الدخل المحدود. ويؤكد ذلك ما ورد في التقرير الذي يشير إلى أن 79% من حوادث الغرق تقع في الأماكن العامة: 52% منها على الشواطئ، 15% في البرك، و14% في الأنهار.

أما في ما يتعلق بالمسؤولية الأكبر، فالأصابع تُوجَّه إلى الوزارات المعنية، التي غالباً ما تغيب عن المشهد، وكأن سلامة الشواطئ وموسم السباحة لا يشكلان أولوية حقيقية على جدول أعمالها. ومن المعروف أن مسؤولية المياه موزعة ما بين أكثر من طرف. فالمسابح الخاصة تقع ضمن مسؤولية وزارة السياحة التي يفترض بها أن تجري مراقبة دورية لها، لجهة كشف ما إذا كانت مرخصة أو لا وإن كان فيها منقذون مدرّبون، وعلبة إسعافات أولية وأشخاص مدرّبون على استعمالها. ويتوقف دور الضابطة السياحية غالباً «عند تسطير المحاضر بحق المخالفين من دون العمل على معالجتها».

كذلك يفترض إجراء دورات تدريبية لتخريج منقذين، وقد درج في الآونة الأخيرة أن يقوم الدفاع المدني وفوج إطفاء بيروت بإقامة دورة لتخريج منقذين يحوزون في نهاية المطاف شهادة من وزارة السياحة، غير أن ما يجري هو «دورات رفع عتب»، يقول أحد المتابعين، إذ إنها لا تخرّج العدد الكافي لمرافقة موسمٍ حافلٍ بالحوادث، ناهيك بأن الدورات تُجرى في عز الموسم.

أما وزارة الأشغال التي تتبع لها إدارياً المسابح العامة والشعبية، فلا قانون يضبط ما يحدث ضمن هذه النطاقات. وإن كان التسليم بأن الوزارة لا تستطيع مراقبة كل الشواطئ، إلا أن ذلك لا يعفيها من المسؤولية عن الموت الذي قد يحدث ضمن نطاق صلاحياتها. ولكي تعفي نفسها من هذه المسؤولية، لزّمت هذا الأمر إلى البلديات، لناحية «إلزامها بالتأكد من وجود منقذين بحريين بعدد كافٍ لمراقبة الشواطئ التي تقع ضمن نطاقها البلدي، خصوصاً أن هذه الشواطئ مقصودة من قبل كثيرين»، بحسب الحلبي.

وبسبب غياب هذه الرقابة، يبتلع البحر غالباً العدد الأكبر ممن يموتون بسبب حوادث الغرق. ولعلّ أصعب تلك الحالات الذين يتوفون عن طريق «الشكّ» التي تحتلّ المرتبة الأولى من الغرق في البحر، ثم التيارات المائية. ولئن كانت الجمعية اللبنانية للوقاية من الإصابات الرياضية قد نجحت سابقاً في انتزاع قرارٍ من وزارة الداخلية والبلديات بمنع هذه الظاهرة ووضعها في عهدة القوى الأمنية والمحلية (البلديات)، غير أن التطبيق كان ظرفياً مع بداية دخول القرار حيز التنفيذ، حيث ينحصر في الأيام الأولى من الموسم.

أما اليوم، فقد أصبح هذا القرار حبراً على ورق، وتتقاذف الأطراف المسؤولية عن ذلك. وثمة حادثة كانت كفيلة بفهم هذا الأمر كله، فعندما اشتكت الجمعية لدى بلدية بيروت من ظاهرة الشك في عين المريسة، كان الجواب بأن «الشباب كانوا يقفون خارج الدرابزين»، باعتبار أن مسؤوليتها تتوقف عند الدرابزين، فيما كان جواب القوى الأمنية أن ما بعد الدرابزين أملاك بحرية عامة، وهي «خارج صلاحياتنا». هكذا، بين حانا ومانا، يموت الناس مجاناً.